يقول
الرازي: (الدليل الثاني: أن أجل طبقات الرواة قدراً وأعلاهم منصباً الصحابة رضي الله عنهم، ثم إنا نعلم أن روايتهم لا تفيد القطع واليقين، والدليل عليه أن هؤلاء المحدثين رووا عنهم أن كل واحد منهم طعن في الآخر ونسبه إلى ما لا ينبغي).إنه يمكن أن يتركب من كلامه هذا أعظم أنواع النفاق والزندقة كما فعلت الأئمة مع
الرافضة ، بل يكفرونهم أحياناً، ولكن كل كلامه هنا إنما هو حتى لا يثبت صفات الله، ودخولاً منه وخوضاً في الجدل الكلامي، فيقول: (أعلى الطبقات هم الصحابة ومع ذلك لا تفيد روايتهم القطع واليقين) وعلل ذلك بأنه ورد عن بعضهم الطعن في البعض الآخر -والعياذ بالله- وذكر أمثلة لا داعي لها؛ لأن بعضها باطل وبعضها صحيح، لكنها جميعاً ليست طعناً في عدالة الصحابة ولا في صدقهم، وما صح منها إنما هو على سبيل مخالفة بعض الصحابة لبعضهم في اجتهاده والتثبت لا على سبيل التكذيب، وهذه الآثار ذكرها
ابن القيم رحمه الله، وبعضها أصلاً لا علاقة له هنا، فمنها أن
عمر طعن في
خالد بن الوليد ، وأن
أبا ذر طعن في
عثمان، وهذا أصلاً ليس له علاقة بالرواية وليس طعناً؛ لأن
عمر إنما ولَّى
أبا عبيدة لسبب، وعزل
خالداً لسبب، وليس ذلك للطعن في روايته، و
أبو ذر كان له رأي أيام
عثمان وليس هذا طعناً في
عثمان ، إنما كان
أبو ذر رضي الله عنه مجتهداً بأن لا يكنز أي مال، وهذا خطأ فإجماع الصحابة مقدم على رأي الفرد منهم، لكن
الرازي يريد أن يجمع كل هذا ليستدل به على مراده، وأما التمثيل بأن
أبا هريرة رضي الله عنه رد بعض الصحابة بعض أحاديثه وكذلك أثر
ابن عمر فهذا أيضاً إنما هو من باب الاجتهاد.وحديث
أبي هريرة في الطهارة الذي يشير إليه
الرازي هو حديث: (
إذا أصبح أحدكم فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً ) فما هو الطعن فيه؟ وقوله: (
فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده ) العلة فيه واضحة وهذا الحديث حديث ثابت صحيح قد اعترض عليه من اعترض بأن قال: إذا كنت تتوضأ من بركة أو من حوض ولا إناء -كما قالت
عائشة رضي الله عنها- فماذا تصنع؟ يعني: أن الحديث إنما هو فيما إذا كان لديك إناء فلا تدخل يديك فيه بل اغسلها ثلاثاً ثم أدخلها فيه، فإذا كان الوضوء من حوض أو بركة فماذا تفعل؟ لابد أن تدخل يدك، فهل هذا اعتراض وجيه؟ الجواب: لا؛ لأن الماء الكثير لا يتأثر حتى ولو كان في اليد شيء فهذه كلها اجتهادات وخلافات بسيطة.وأما حديث
ابن عمر : [
إن الميت ليعذب ببكاء أهله ]، فما الطعن فيه؟ الجواب: أنه يحمل على الكافر؛ لأن الله يقول: ((
وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ))[الأنعام:164] فمن مات وأهله يبكون عليه، فكيف يعذب ببكاء أهله عليه؟إذاً: هذا اجتهاد مقابل اجتهاد، كأنهم يقولون: لعلك يا
ابن عمر ما حفظت الحديث وما أتقنت الحديث، فهو مقبول، لكن كيف يكون هذا والله تعالى يقول: ((
وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ))[الأنعام:164]؟ ومع هذا فالصحيح هو كلام
ابن عمر، لكن يحمل على ما إذا لم ينههم وكان يعلم أنهم ينوحون عليه فأقرهم، بل كان بعض العرب يوصي بالنياحة:
إذا مت فانعيني بما أنا أهله وشقي عليَّ الجيب يا ابنة معبد هذه من معلقة
طرفة بن العبد ، فكانوا يرون النياحة على الميت، وكما فعل
صخر أخو
الخنساء حين قال:
والله لا أمنعها خيارها وإن أمت تمزقت خمارها وجعلت من شعر صدارها فهو هنا يفتخر أنه يجب أن يعطيها كل شيء؛ لأنها لو مات لناحت عليه وبكت وفعلت، وهكذا كان حال العرب، وهذا احتمال في معنى الحديث، والاحتمال الثاني: أنه حتى ولو لم يوصهم ونهاهم ولكنه كان مؤمناً بذلك، ثم ناحوا عليه فإنه في قبره يتأذى ويتألم: أنني أوصيتهم بترك ذلك فلم يفعلوا بوصيتي، وهذا معنى يعذب.فإذاً لا ينبغي لأولياء الميت أن يفعلوا ما يؤذيه وما يعذبه وما يؤلمه، وبهذا يظهر المراد من قوله تعالى: ((
وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ))[الأنعام:164] فلا يكون العذاب بمعنى أنه يتحمل إثمهم، إنما هو يتألم منهم بسبب عملهم.إذاً: لا تعارض والحمد لله، وهكذا كل المسائل التي هي مثل هذا النوع، وسيأتي بعضاً منها إن شاء الله في كلام
ابن القيم ، ومنها خبر الاستئذان وخبر
فاطمة بنت قيس وغيرها.يقول
ابن القيم رحمه الله: (واعلم أنك إذا طالعت كتب الحديث وجدت من هذا الباب ما لا يعد ولا يحصى).وصحيح أنه يوجد استدراك واختلاف، ولهذا نحن نقول: إن روايات الصحابة وروايات العلماء والحمد لله متقنة وموثقة ومدققة؛ لأنهم إذا سمعوا روايةً واستغربوها أو خالفت ما حفظوا اعترضوا عليها، وقالوا: كيف هذا؟ ولماذا هذا؟ ومن قال بهذا؟ فهذا دليل على أن ما لم يتثبتوا فيه فهو ثابت، وأن ما تثبتوا فيه فهو قليل جداً بالنسبة لكثرة الأحاديث فالمسألة إذاً خلاف في اجتهاد، منه ما يخطئ ومنه ما يصيب، والذي يهمنا هنا هو الأول، وهو أن ما لم يختلفوا فيه فهو عندهم ثابت، وثبت أنهم في أحاديث الصفات لم يختلفوا، بل قبلوها كما هي والحمد لله.قال
الرازي: (إذا ثبت هذا فنقول: الطاعن وإن صدق فقد توجه الطعن على المطعون، وإن كذب فقد توجه على الطاعن)، وهذا كلام خطأ؛ لأنه لا يلزم من صدق الطاعن أن المطعون فيه مطعون مطلقاً؛ لأن الصحابي فمن دونه ربما يروي ألفاً أو ألفين أو ثلاثة آلاف حديث، فيعترض عليه معترض في حديث واحد فيكون قد أخطأ فيه، ونحن قلنا: إنهم ليسوا بمعصومين، فالخطأ في حديث لا يعني أن الطعن متوجه مطلقاً في حق المطعون فيه، وإن لم يتوجه فلا يعني أيضاً أن الطاعن كاذب ومتحامل ومفترٍ يرد كلامه مطلقاً، وإنما قد ينتقد عليه ويكون مخطئاً في انتقاده، وهو مع ذلك مصيب في أقوال وأراء أخرى، وهذا الأمر يؤخذ منه قاعدة واضحة جداً في مسألة الحكم على الرجال، وهي أن كل أحد من الصحابة -أو غيرهم من باب أولى- لا يجوز أن يؤخذ كلامه بجملته وبكليته، فيجعل معصوماً أو فوق الخطأ وفوق النقد، ولا يعني هذا أيضاً أنه إذا أخطأ مرة فإنه مخطئ في كل شيء ويتوجه إليه الطعن فيرد كلامه مطلقاً، كما هو كلام أهل الأهواء ومذهبهم، ولهذا نجد أهل الأهواء يكفرون أو يضللون، و
أهل السنة يخطئون ولا يضللون ولا يبدعون المخالف المجتهد، وإنما يبدعون أهل الأهواء وأهل البدع، والمخالف المجتهد يكفره أهل الأهواء؛ لأنه خالف في حديث أو آية أو مسألة، فيقولون: كافر ضال زنديق، وهذا من مبالغة وغلو أهل الأهواء والعياذ بالله، وأما
أهل السنة فيقولون: أخطأ في هذا القول، فالأمر عند
أهل السنة بين الخطأ والصواب في الأمور الاجتهادية ولا يبنون عليها إيماناً أو كفراً.